لكل ثورة أدباؤها ولكل حدث بديع في تاريخ الإنسانية من يشتغلون على تدوينه، بشتى الوسائل المتاحة، حتى يخلد ويبقى إرثاً لا تطاله أيادي التقادم. ولأن رسالة الأدب، في المحصلة، تتجاوز الحيز الجغرافي الذي يُولَدُ فيه، ليعانق الانشغالات الإنسانية بمعزل عن المكان الذي احتضنه واللغة التي أُنتج بها والثقافة التي آوته بما يشكله من تعبير عن المشترك الإنساني في قوالب إبداعية تمنحه الخلود. فالأدب ينقل التجربة الإنسانية من مستوى الحدث العادي إلى المتخيل، والمسافة الفاصلة بين الواقع والخيال هي بالضبط التي تمنح لهذه التجربة مغزاها وتجردها من الزمان والمكان لتسمها بالخلود وتصبغ عليها طابع الأنسنة. كل الأحداث التي شكلت منعطفاً مهماً في تاريخ الدول والشعوب، إذا لم نشأ قول الإنسانية، استلهمت الكثير من مصطلحاتها وتعبيراتها المهمة من كتابات الأدباء والمفكرين ومن أقوال الشعراء و"إمديازن". كما أن العكس حدث أيضاً، إذ أن القمع السياسي والتعذيب وكل أشكال الظلم ألهمت الكثير من الأعمال الأدبية التي شكلت سجلاً أساسياً لمعرفة تاريخ مراحل مفصلية من حياة الشعوب. ولنا في تاريخ أمريكا اللاتينية أحسن مثال على كتابة هذا التاريخ الأدبي الشعبي المناضل. وبما أن العالم العربي مشتعل بلهيب "الثورة" من أقصاه إلى أقصاه، يظل سؤال الثورة والأدب مطروحاً على مستويات متعددة ومركبة تتطلب مناقشتها جرأة كبيرة تسمي الأشياء بمسمياتها دون خوف من إغضاب الكثير من تجار الكتابة و"الثورجيين".
لقد أتيحت لنا فرصة حضور محاضرات عدة عما اصطلح على تسميته جزافاً بالربيع العربي في جامعات أمريكية مختلفة وعنى لنا، خلال كثير منها، أننا كنا نستمع إلى سماسرة يتحدثون عن الثورة بشكل ارتزاقي أكثر مما استمعنا إلى أدباء يحملون في كينونتهم الرئة الأخرى التي يمكن أن تتنفس بها الثورة الحقيقية؛ أقصد أن الأدب هو الرئة الثانية للثورة. ولكن كيف لبعض هؤلاء أن يحس بهذه الرئة وهو متخندق في أدوار صغيرة وضيقة تفرضها الطائفة والولاء والمصلحة الشخصية والعداء للآخر المختلف؟ كيف يمكن لشخص أن يُسمي نفسه أديبا "من الأدب" ونحن نعرف أنه ليس من "الأدب" في شيء إلقاء محاضرة عصماء عن الانتماء الطائفي والثورة أو يدعو إلى تدخل الاستعمار من جديد بكل خشوع ووجل لوقف مجازر النظام ضد الشعب؟ ثم كيف لنا أن نسم طبقة، لاتسمح لها ولاءاتها المشابكة للقبيلة والطائفة والجماعة الدينية باكتساب الرؤية الشاملة المجردة عن رهانات تلك الانتماءات المُقَيدة لقدرة الانسان على الابداع والخلق، بميسم الأدب الذي يبقى في عمقه مشتركاً إنسانيا يرفض الهُوياتية والتخندق. لو كان للأدب دين أو طائفة أو حتى لغة لما قرأنا كتاب "البؤساء" ولأحرقنا "الكوميدية الالهية" ولما انتشرت كتابات غارسيا ماركيز ويوكيو ميشيما في كل أصقاع الأرض، دون أن ننسى، بطبيعة الحال، الاقبال المنقطع النظير على دراسة نصوص نجيب محفوظ وادريس الشرايبي وأسية جبار وأحمدو أمباتي با وغيرهم في الجامعات الغربية والشرقية. الأدب يرفض الحدود الاثنية باعتبار أنها تتنافى مع جوهره المُؤَسس أصلاً على الحرية المطلقة في التعامل مع القضايا التي تهم الإنسان والبيئة كإطار جامع للتجارب الانسانية في سعيها الحثيث لبناء ذلك العالم الممكن وليس المُتاح. الأدب الملتزم بقضايا الإنسان والمجتمع لا يكتفي بالمُتاح بل يبحث عن الممكن وعندما يصير الممكن ممكناً يستكشف معالم أخرى في ما وراء ذلك الممكن الذي تم تحقيقه. من هنا أهمية الأدب في اختمار الثورة وفي انتشار فكرتها في نسغ المجتمع تماماً كانتشار الماء في نسغ النبات دون أن تراه العين.
يقول أليكسيس دو طوكفيل، في معرض حديثه عن تأثير الأدب في الخطاب السياسي في القرن التاسع عشر، إن " اللغة المستعملة في السياسة {استلهمت} نفسها شيئا ما من اللغة التي كان يتكلم بها المؤلفون" وأصبحت متشبعة "بالتعابير العامة، المصطلحات المجردة، الكلمات الدالة على الطموح وبالجمل الأدبية" وتنبأ بأن هذا الأسلوب "الذي ساعده الخطاب السياسي الحماسي على الانتشار، سيتوغل في جميع الأوساط الطبقية وسيصل، بسهولة نادرة كذلك، إلى الطبقات "الدنيا في المجتمع". هذا القول ينطوي على ثلاث أفكار رئيسية:
أولاً الدور الجوهري الذي يلعبه الأدب في نشر الأفكار والقيم والانتقال اللغوي بالناس من مستوى خفيض إلى مستوى أعلى خطابيا وتزويدهم باللغة التي يحتاجون إليها في الممارسة السياسية، ثانياً الأدب كان محفزاً للثورة وممهداً لها بتأسيس الإطار المفاهيمي المرجعي لها من خلال تداول لغتها وأفكارها، وثالثاً إن الأدب هو الذي قعد للثورة بأن خلق لها قناة لغوية وتعبيرية تستطيع بواسطتها تجسيد نفسها. سيكون مفيداً في المستقبل أن نعرف دور مختلف الأنواع الأدبية في اختمار ثم في نشر فكرة الثورة في العالم العربي، خاصة في كتابات تشكل علامات فارقة في الأدب العربي الحديث وأعني بالضبط أعمال عبد الرحمان منيف، صنع الله إبراهيم وحيد حيدر؛ كما أن استكشاف تأثير الكتابات السجنية المكتوبة حالياً أو التي ستكتب مستقبلاً في تحرير الشعوب العربية من عبودية الخوف وتكسير الحواجز النفسية من الأعمال التي تستحق مجهود كل دارس مجد. سيكون مثيراً للاهتمام معرفة درجة "التخريب" (subversion) الذي سببه هؤلاء الأدباء بكتاباتهم لصنم الديكتاتورية بمعاويل الحروف وقدرة الجمل على تعرية تماثيل البرونز من ألقها المغشوش على محك الكلمات. فالكتابة الأدبية الصادقة الملتصقة بهموم الوطن والمجتمع أفتك في تأثيرها من كل أشكال الأسلحة المستوردة، والأنكى من ذلك أن سلاح الإبداع عادة ما يكون محلي الًّصُّنْع رغم ما يكمن أن يتضمنه من بهارات التناص والعالمية والانفتاح على اللآخر. فرغم أن الأديب لا يخرج دبابات إلى الشارع ولا يقصف البيوت بالصواريخ، بل إن الأديب الحقيقي لا يسمح لنفسه حتى بالتحريض على ذلك، إلا أن قدرته على خلق عوالمه، سواء المستوحاة من الواقع أو المتخيلة، تفرض على القارئ إعادة التفكير في معيشه اليومي وفي طريقة تعامل السلطة معه بمختلف تجلياتها البادية والمضمرة. فالكتابة بهذا المعنى تلعب دور مرآة تعكس مأساة المجتمع وتستفز الأفراد والجماعات ليسترجعوا مصائرهم المسلوبة منهم.
لقد كان الكاتب الاسباني المقيم بالمغرب خوان غويتصلو أول من طرح سؤال الأدب والثورة في العالم العربي بعد ثورتي تونس ومصر. فبحسه الأدبي الفذ وببراعته المعهودة طرح سؤالاً مستفزاً على ما يقارب ثلاثمائة مليون من البشر، ومشى. نعم، طرح علينا سؤالاً شقياً ومشى في حال سبيله، لكن السؤال ظل عالقاً وبدأنا نرى ما يحمله في طياته من توقعات لم تخطر على بال الكثيرين في حينه. مشى غويتصلو إلى حال سبيله، منشغلاً باجتراح بعضاً من روائعه من خياله الخصب، إلا أن السؤال، بالنسبة لنا نحن العرب المعنيين بالتغيير الذي يحدث في منطقتنا، لم ينته ولن ينتهي في الأمد القريب. ظل يستفزنا ويتحدانا أيما تحد. هذا السؤال هو بداية مشكلة، أو في الحقيقة هو سؤال-مشكلة، لأن المهمة ليست بالسهولة التي يظنها البعض من الباحثين عن السبق أو من مقتنصي الفرص للانتفاع المادي. فاستغلال ملحمة الشعوب العربية لكتابة "أدب" تحت طلب دور النشر لإغراق السوق، خاصة في الغرب، حيث الحاجة لمن يكتب لكي تبيع، للاستفادة المادية من الاهتمام الشعبي بما يحدث في العالم العربي، لا يمكن إلا أن يكون إلا "أدبا" لقيطاً لا يستوعب أهمية اللحظة وخصوصيتها وفرادتها في تاريخ الإنسان العربي المقهور للمئة سنة الأخيرة على الأقل. كما أن أدباً مرتجلاً بهذا الشكل لا يمكن أن يجسد ما تمثله هذه الثورة في اللحظة التاريخية التي نعيشها من انبعاث للروح والفكر في جسد عربي حنطه القمع لعقود وساهم الاستعمار، الداخلي والخارجي على حد سواء، في خلق كل شروط الهزيمة النفسية والفكرية التي لولاها لما استمر الوضع على ما هو عليه لكل هذه العقود. فأن يطرح علينا كاتب إسباني هذا السؤال في هذا الوقت بالذات يعني أنه اِسْتَشْعَرَ باستشراف الكاتب المحترف أن معركة الثورة في المستقبل سَتُخاضُ في ساحة الفكر والقيم. ولعمري، هذه المعركة أشد وطأة وخطراً على مصير المجتمعات من كل أسلحة الديكتاتورية. أستشعر خوفاً دفيناً في سؤال غويتصلو عن هوية المجتمع بعد الثورة وعن التهميش الذي يمكن أن يطال أصحاب الأقلام النزيهة التي تستطيع بالفعل تجسيد ملحمة الثورة أدبياً وقيمياً.
الأدب الذي يتحدث عنه خوان غويتصلو هو الأدب الملتزم . الأدب القادر على تحويل المادة الخام التي وفرتها حناجر الشبان والشابات والكهول والعجائز العرب في ميادين الحرية إلى مادة لعمل أدبي ينتقل بالرواية العربية إلى المستوى الآخر الذي مرت منه بقية الدول في أوروبا وأمريكا. أدب الثورة. كيف يمكن التقاط هذا النبض وتجسيده في عمل أدبي لا يغرق في الوصف ولا يسقط في فخ التأريخ ويتجنب التقرير؟ كيف يمكن لعمل أدبي أن يصوغ الثورة في نفس الوقت الذي تصوغه فيه الثورة؟ غويتصلو حدد مواصفات من يستطيع كتابة هذه الرواية في توفر التؤدة والاقتدار والرؤية السليمة للمستقبل. فبذكائه الثاقب استشرف غويتصلو سلوك المتكالبين على اقتناص الفرص، فاستعمل كلمة ”تؤدة“ التي تحيلنا على الزمن والإيمان بالقضية أيضاً وأهم ذلك تتطلب نفساً طويلاً كمن يَجْري "سباق المسافات الطويلة". جاء في تحفة "لسان العرب" لابن منظور في تعريف التؤدة أنها "على وزن هُمَزَة بمعنى التثبت بالأمر وبمعنى الرزانة والتأني" وقال الأزهري إن "التؤدة بمعنى التأني في الأمر". فالتؤدة تحيلنا على الكثير من الأفكار المهمة التي، في نظرنا، أراد القائل أن يوصلها إلى من يعنيهم الأمر حتى لا يضيعوا الفرصة على أنفسهم بكتابة "أدب رديء" عن حدث فاق كل آفاق الانتظار. فمن يعطي لنفسه مهمة كتابة هذه الرواية يجب أن يخصص لها وقتاً وجهداً ويستثمر فيها لتختمر أولا، قبل أن يخوض في كتابتها. فالباحثة الفرنسية لوبا يورغانسن تفترض أننا نكتب أي كتاب مرتين أو أكثر؛ المرة الأولى كتابة ذهنية والمرة الثانية كمخطوط بالشكل المتعارف عليه. الكتابة الذهية شاقة ومضنية ولا يتقنها إلا من تماهت روحه مع الحدث المُلْهم لأنها تشكل البرزخ الذي يُمنح فيه العمل الأدبي روحه وشكله. فمن لا يؤمن بالثورة وعاشها وعايشها وتموجت أحاسيسه مع موجاتها، لن يستطيع التقاط كنهها ونحته فْي كلمات، تتحول بمرور الوقت إلى مصدر إلهام واحتفاء بالثورة والثوار. ثم من ساهم في النظام البائد وحصد جوائزه ورفل في نعيمه لن يستطيع أن يكتب هذه الرواية لأنها ببساطة عصية عليه ونظرا لكون الصدق مع الذات حاجة من حاجات الكتابة الإبداعية.
لكن دعونا نفكر في الشباب والشابات الذين بحت حناجرهم وجفت حلوقهم وذبلت شفاههم وهم يهتفون بسقوط الديكتاتورية، أليست هذه طريقتهم في كتابة رواية الثورة؟ ثم أليس من المهم خلخلة معنى مفهوم الكتابة ليحتوي كل التجارب التي نسجت وحيكت خيوطها في ميدان التحرير في كل قرية ومدشر ومدينة وحي في الوطن العربي؟ أليس الحكي المباشر، في حد ذاته، كتابة لروايات نستطيع دراستها وتدريسها في صفوف الأدب، باعتبارها انجازاً وسبقاً عربياً فريداً نظراً لكون ثوراتنا هي الأولى، في تاريخ الإنسانية جمعاء، التي كتبها الفاعلون فيها على الهواء مباشرة بفضل وسائل الاتصال الحديثة. نعي تماماً تبعات هذا الكلام على أصعدة عدة ومن بينها فهمنا لمفهوم الكتابة في حد ذاته والحدود الفاصلة بينها وبين أشكال تعبيرية أخرى. ثم كيف نصف أشكال "الكتابة الشعبية" في المدونات والمواقع الالكترونية واستعمال "تويتر" و"فايس بوك" للكتابة عن الحدث الذي يتشكل في لحظته.
نظن أن الثورات العربية لا يمكن أن يعبر عنها كاتب واحد يمثلها رمزياً، لذلك نتفق اتفاقاً مبدئياً مع غويتصلو على ضرورة وجود كتاب يستطيعون نقل كنه الثورة إلى مستوى الخيال، لأنها ليست ثورة طبقية بقدر ما هي ثورة شعبية شارك فيها الجميع، وبالتالي لا يمكن لأحد اختطاف الحديث باسمها أدبياً. فشرعية من شاركوا فيها أقوى ممن يريدون أن يركبوا عليها لاختطاف الأضواء رغم صمتهم طيلة فترة الاحتجاجات واستفادتهم من كل مزايا النظام البائد. يقول الناقد الأدبي الألماني نيكولاس بيندر في مقال بعنوان "الطريقة المريحة للمشاركة في ثورة"، في معرض حديثه عن كتاب "الربيع العربي: استعادة الكرامة العربية" للطاهر بن جلون، أن ثوار آخر ساعة لن يستطيعوا التعبير عن طموحات الشعوب، لأن الشعوب في الثورة العربية لا تريد أنصاف الحلول، كما أنها قطعت مع الكلام الدبلوماسي. لذلك يصعب على كتاب من هذه الطينة أن يعبروا عن هذه الطموحات أدبياً، ليس فقط بسبب انفصالهم عن واقع الفاعلين في الثورة، ولكن أيضا نظراً لافتقادهم للشرعية الثورية التي تجعلهم ينتمون عضوياً إلى الشعب ويستطيعون التعبير عن خوالجه. والمنفصل لا يمكنه النفاذ إلى جوهر الأمور لأن دونه وذلك الكثير من المعيقات. فشاعرية فؤاد نجم تزداد جمالاً وألقاً وكلماته تكتسب معنى أعمق لأنه ممن صنعوا الثورة. غداة سقوط مبار كنا مضطرين لحذف "شاعرَيْنِ" من لائحة أصدقائنا لأنها، طيلة أيام الثورة الشعبية المصرية، لم يكتبا ولو كلمة عن معاناة الشعب المصري من القمع ولكن بمجر طرد مبارك بدآ يدبجان "القصائد" تمجيدا للثورة. الشاعر أو الأديب الملتزم لا يمكن أن يكون في الموقع الخطأ وهو يرى ملحمة تاريخية تكتب أمام عينيه دون أن يعي ذلك.
الشيء الآخر المهم في كلمات غويتصلو هو حديثه عن كاتب/كاتبة شاب(ة) لكتابة رواية الثورة. لعمري يريد، بهذه الطريقة، إرسال رسالة أخرى مهمة لبعض الكتاب، ربما يعرفهم أو يعرف أنهم سيركبون على الثورة للكتابة، أن يتركوا الشباب يكتبون عن ثورتهم ويحولوها إلى الشكل الأدبي الذي يرتضونه لها. فالثورة تورثهم والتعبير الأدبي عنها يجب أن يترك لهم. فكتابة الثورة والكتابة عن الثورة أمران بينهما بون شاسع ولكنها ينصهران في بوثقة ذلك الكاتب الملتزم الذي يستطيع أن يزاوج بين الثورة كتجربة إنسانية طبيعية فريدة وبين الكتابة كملكة وقدرة على الهجرة بالواقع إلى الحلم وتقديمه للقراء الذين يمنحونه حيوات أخرى بتأويله وتداوله فيما بينهم.
من حسنات هذه الثورة أنها بينت لنا مدى اهتمام الشباب العرب بالكتابة وكشفت عن توفر الخميرة الإنسانية الضرورية لثورة أدبية في المستقبل القريب. ثورة تبدأ بثتوير دور النشر، ودمقرطة الوصول إلى الإعلام ومصادر التمويل وإزالة المعيقات التي تحول دون تحقيق الصحوة الأدبية في المجتمع العربي. لكي تكتمل الثورة، لابد من أن توازيها ثورة أخرى على مستوى النشر، بطرح مجلات تهتم بدراسة هذه الكتابات، وبفتح فضاءات لنشر الأعمال الأدبية التي ستولد بتؤدة وتمهل في السنوات القادمة. أما الكتابات الظرفية فإنها ستنتفي بانتفاء الظروف التي ولدتها، لذلك لابد من الحرص على كتابة أعمال تجسد عمق الثورة وعمق التجربة التي تمثلها.
كل ما كتب حتى الآن، وسمي بهتانا برواية عن الثورة، لا يمكن أن نصنفه كذلك لأنه ظرفي. نحن بحاجة إلى أعمال أدبية تأخذ وقتها لتنضج كذلك الذبال الذي يسميه الأمازيع "أقبور"، أي الشديد الاختمار، نظرا لمفعوله السريع والمحسوس على التربة التي يُخْصبها. إن ثورة أخذت خمسة عقود لتحدث لا يمكن أن تجسد روائيا في ستة أشهر. فكما سطى بعض "الثوار" المغشوشين على حلم الشعوب وتسلقوه باسم الدين والطائفة والمصالح الأقلوية الضيقة، وجب على أهل القلم والكلمة الصادقة أن يحذروا من سرقة أدبهم الرفيع من قبل متأدبي الثورة وتجار أي شيء في سوق نخاسة الكلمات. حري بنا أن نرفض "أدبهم" ونشيح بوجوهنا عن وجهتم حتى لا تصيبنا عدوى الانتفاع من المحرم في معبد الأدب المُهاب. فجمال الابداع في صفاء سريرة صاحبه/صاحبته وما أحلى الاستمتاع بكلمات كاتب(ة) دخل هذا المعبد طاهراً من شوائب الوصولية والنفاق. وقانا الله وإياكم من شر الاثم في محراب الأدب ومن أدب من يكتبون عن تواجدهم المغشوش في تقاطع النيران.
[نشرت نسخة قصيرة من هذا المقال في مجلة ريست لحوار الثقافات بإيطاليا.]